الأربعاء، 20 مارس 2013

كما عيل


كنت كل ليلة فى صغري أدخل غرفتي قبل أن يطفي أبي الأنوار لأختبيء هنالك من الظلام ومن كل شىء وأستعد للحلم , أجلس أفكر فيما أتمناه , تري ماذا سيتغير هذي الليلة ؟ هل سينبت لى فى الحلم جناحان ؟ هل لن أضطر لعبور الطريق وسأطير مسرعا إلي النهر ؟
ربما أقفز من علو ؟ بالرغم من أن أبي أخبرني بأن من يقفز من علو ربما يموت وأني لم أري ماذا يحدث لكل الموتي سوي أنهم يختفوا من حياتنا فظننت فى فترة بأن الموتي يرحلون إلي عالم آخر
حيث يرحلون عنا
يرتاحون منا ومن أوامر أبي التي بالتأكيد تطبق فى كل نواحي الأرض فلم أري شخصا أبدا لم يصغي إليه ولم ينفذ ما قاله , مازلت أتذكر ظلام غرفتي وسريري ووسادتي التى رافقتني عشر سنين
مازلت أتذكر شباك الغرفة بأعلي سريري الذي أدمنت إغلاقه وفتحه لكي أستطيع أن أهرب ليلا من العالم قائلا فى سري يارب أموت
لم يكن الموت أمنيتي ولكن كان الرحيل عن كل شىء
مثلما كانت كل أحلامي أني أطير بعيدا وأنظر لهم من بعيد وأنا أرتدي منامتي وعلي ظهري العباءة الزرقاء التي تعلن للجميع بأنني تحررت وبأنني أصبحت جزءا من السماء وأن الكون كله لي ..
أين تذهب الطيور ؟
أذكر أن هذا أحد الأسئلة التي آرق مضجعي وجعلني أقف فى الشرفة معظم أمسياتي أبحث عنهم قائلا ( العصافير كانت هنا الصبح راحوا فين ؟) ومازلت أذكر دهشتي وفاهي المفتوح حين علمت بأن هنالك من يربون العصافير
وتعجبت لم يغلقون عليها الأقفاص ؟؟  هل يخافون عليها من الطيران ؟ هل العصافير قد تصبح مسجونة مثلي فى قفص ؟
مازلت أذكر ليالي الخوف والبكاء وحيدا بسبب ( الخواتم ) كما كانوا يسمون شعري و بسبب أن مصروفي لا يكفي وبسبب أني لا أحد يحبني
الخوف ...
مازلت أذكر بدايات الخوف والغضب بداخلي
حين كنت أستيقظ بعد منتصف الليل بساعات لأصرخ أو لأبكي بحرقة وأجد نفسي فى الصباح فى سرير أبي
مازلت أذكر دفئه ساعتها حين ضمني وأذكر أيضاً برودة جسده حين فارقني ودموعي الساخنة تتساقط بلا جدوي حين علمت أن الموتي لا يعيشون فى عالم آخر بل فقط يجلسون فى قبورهم ينتظرون الحساب
مازلت أذكر الصباح الشتوي حين أمطرت الدنيا قطعا من الثلج وكنت للمرة الأولي فى حياتي سعيدا بالذهاب إلي المدرسة وحين سألني أبي قلت بسذاجة ( عايز أروح المدرسة عشان ألعب فى المطرة) مازلت أذكر كم النصائح وكم التحذيرات وأيضا كم الصفعات التي تلاقاها وجهي البريء حينها
ومازلت أذكر الشارع الضيق الذي بدا لي حينها إستاد كبير وحلمي بأن أجري بالكرة إلي أن تصدمني سيارة وأموت و( أبقى حر بقي ) او أستمر فى الجري إلي أن أهرب منهم , ومازلت أذكر أيضاً تلك العلامة فى يدي اليمني جراء الجري فى الشارع وأصابع قدمي الدامية بسبب ( لعبي الكورة حافي ) , ومازلت أذكر أني كنت أجلس وحيداً دوماً .

فكرة الهروب لم تكن هي الهدف يوماً من تخيلاتي ولكن كان الهدف هوا الرحيل
عن كل شىء تمنيت الرحيل أو الموت الذي يجعل الناس ترحل و ( تطلع فوق ) مثلما كانوا يقولون

مازلت أذكر سيري باكياً تحت المطر وادعو الله أن أستيقظ طائرا وليس عصفور لأن العصافير يحبسونها وأنا لا أريد أن أستبدل سجن بسجن
مازلت أذكر زملائي حين قرروا خلع الأحذية والشرابات والجري فى أرض الطابور حفاة فى المطر وحينها أخبرت نفسي بان الحذاء سيظل نظيفا ولن يلاحظ أبي شيئا , وعدت يومها المنزل وقد أضعت حقيبتي وأضعت إحدي فردات الشراب ومازلت أذكر تلك الصفعات أيضا وبكائي علي الأرض والإضاءة الصفراء التى كانت تحرق روحي كألف شمس وشمس
مازلت أذكر ماجي بوجهها البشوش وعلامة الصليب علي يدها وغمزتها لي مع كل إبتسامة ساحرة وسؤالي الدائم لأمي بمنتهي البراءة ( هوا الناس بتتجوز إمتي عشان عايز أتجوز ماجي )
ومازلت أذكر هدايايا لماجي حين أعطيتها يوما سندوتشاتي كلها وأخبرتني أنها لا تأكل الجبن لأنها صائمة وبأنها أعدت سندوتشات خاصة بها إذا أردت أن آكل معها وردي عليها فى خجل وإنسحاب لأنها لم تقبل هديتي ( ربنا يخليكي شكرا معايه والله ) لم أفهم حينها أن بيننا حواجز أعظم ملايين المرات من الهدية المرفوضة

مازلت أذكر بكائي حين أخبروني بأن ماجي مسيحية وبان المسيحيين والمسلمين لا يتزوجون وحين سمعت بأن هنالك ضابط شرطة قد تزوج مسيحية تمنيت للمرة الأولي أن أكون ضابط شرطة لأتزوج ماجي
وحينها بدأت أهتم بميعاد عيد الشرطة كل عام لا لأنه فقط يلي عيد ميلادي بيوم ولكن لكي أتعلم شىء من العروض العسكرية وكما كنت أقول ( أبقى ظابط شاطر وأتجوز ماجي )
مازلت أذكر خيبتي حين تمنيت أن أحلم بها فى الأجازة ولم تأتي فى الحلم سوي مرتين فقط فى أسبوع كامل وجلست أؤنب نفسي والدموع تغالبني وأخبر نفسي بأنها لن تطيق فراقي وستأتي فى لحظة ما

مازلت أذكر تحويشة الأسبوعين القروش البسيطة ( الستون قرش ), لم أصرف شلناً واحدا وإدخرت جميع شلناتي وفى النهاية وجدت أنه لا جدوي وعدلت عن التحويش وأخبرت أبي ( إن الفلوس يا بتضيع يا إما عم مكرم بتاع الكانتين بياخدها ويدينا حاجات والحاجات بتخلص (
مازلت أذكر أنني من يومها فشلت فى إدخار أي شىء وعللت فشلي بأن : الفلوس بتروح وتيجي وإصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب

مازلت أذكر يوم هربت من المدرسة وكان الشارع مكتظاً بالمارة وأنا أجري هنا وهناك لأسبق الجميع إلي بائع العصير وأشتري لوليتا , قد كان كوب العصير أحد الأحلام التي لم أحققها صغيرا , وبعدها أخذت اللوليتا ممسكا بها فى يدي كمن يحمل سعادة الكون كلها بين أصابعه وجريت إلي نادي الفيديو
نادي الفيديو كان المكان الوحيد الذي تمنيت أن أدخله وخفت من دخوله من كثرة البوسترات التي تحمل صور الشياطين وأفلام الرعب , لم أخف من الدخول رعباً ولكني تمنيت أن أدخل وخفت من البائع الذي تخيلته له نابين وأشعث الشعر ويخفي سكينا بين طيات ملابسه
أو ربما هوا ككل خاطفي الأطفال يحمل الحلوي ويبتسم فى بشاشة ويقول الجملة الشهيرة : تعالي هوديك لبابا
وطبعا لم يفلح أحد أبدا فى أن يستدرجني لأي مكان لأني ببساطة كطفل شقي كنت أخشي أبي وعقابه وأرد فى غضب وسرعة : مش عايز أروح لبابا
ومازلت أذكر بالطبع أني لم أتناول الشوكلاته طفلا لأن مصروفي لم يسمح بمثل هذى الرفاهية وبأنني كنت أتناولها مرة فى العام حين تحضرها لي خالتي من السفر كهدية وكيف أني كنت أقدسها وأقدس ملمسها بين شفتاي
مازلت أذكر برنامج العلم والإيمان الذي سرحت كثيراه فى موسيقاه وكنت أضع يداي علي أذناي لكي لا أسمعها لأنها كانت مرعبة بالنسبة لي ولا أعلم لماذا
و موسيقي هند والدكتور نعمان و عالم البحار وإخترنا لك وأين تذهب هذا المساء ومواقف وطرائف وأعظم مسلسل رأيته فى حياتي ( Mask) وكنت أجتهد فى تقليده بكل براعة وحين شاهدني أبي لا أنسي تلك العلقة التي دامت فترة من الزمن وغيرتني قلبا وقالبا
ومازلت أذكر نادي السينما وموسيقاه الشهيرة والأفلام .
مازلت أذكر الحسناوات ونظراتهن ورائحتهن التي لطالما كرهتها وأسماؤهن التي إستغربت كيف لفتاة أن يسمونها بإسم بهذى السماجة والسخافة , بالطبع حينها كنت أكتفي بأن أشبه إسم الحسناء برائحة ما وغالبا تكون رائحة شىء قذر
مازلت أذكر كتيبات فلاش والتي كنت دوماً أخاف من أن أحل ألغازها بالقلم خوفا علي القلم أن ( يبوظ الكتاب ) , ربما كنت أتمني أن تبدو نظيفة ورائعة إلي الأبد كما تمنيت لكل كتبي ,ولكنها كان دوماً مآلها التقطيع من كثر المذاكرة
ومازلت أذكر أيضا كيف أنني كنت سعيدا جدا بشراء ملازم وكتب خارجية مستعملة لكي أستطع أن أملأها بخطي وبكلماتي وكان ذلك سببا فى إجتهادي فى مرحلة ما

مازلت أذكر أني كنت دائما أكره حذائي الأسود الجلد لأنه ( بيتوسخ بسرعة ) و ( الأستاذ مبيخلينيش ألعب كورة مع العيال عشان مش لابس كوتشي ) وأذكر وقفتي الدائمة أمام محل ( أبو شادي ) ومشاهدتي ل ( الكوتشي الأسود أبو بوصلة ) الذي لم أشتريه حتي لحظة كتابة هذي السطور ولا أدري أيضا لم كان فيه بوصله حتي هذى اللحظة
مازلت أذكر الحل الأمثل للمحافظة علي نظافة حذائي بعد الفسحة و صديقي الذي إتفقت معه أن أعطيه كل يوم قطعة من الساندويتش ليمسح حذائي وكان مرحباً جداً بالأمر إلي أن جعله الطمع يطلب مصروفي فأعطيته يومان إثنان فقط ثم فكرت بعدها فى قتله بالإتفاق مع باقى الزملاء لأنه ( عيل طماع ووحش ) وفشل المحاولة بسبب خيانة أحد الزملاء ومصالحتي له لاحقا ومنحي إياه نصف مصروفي بشكل يومي بشرط أن يسير معي إلي البيت لأني لا أريد أن أكون وحيداً
مازلت أذكر خيبتي فى كل أعياد ميلادي التي لم يأتيني فيها هدايا و جلست فيها أبكي فى الشرفة ليمر عام تلو العام
مازلت أذكر وقفتي أمام محلات الألعاب بلا مصروف ولا أموال بالساعات أشاهد كل الأطفال الأخرون والألعاب وأفكر فى خطتي الجهنمية فى التحويش لإقتناء ( أتاري ) وبدا لي حينها مبلغ ستون جنيها وكأنها ثروة قارون وأذكر بكائي حين علمت بأن الأسعار قد إرتفعت وبأن الأتاري أصبح بمائة وعشرون جنيها وبكائي بجانب تحويشتي التي أخذت من دهراً ( المية خمسة وتلاتين قرش ) , وأتذكر جيداً وقفتي يوم العيد أمام المراجيح خجلاً لأني أشعر بأني كبير علي هذا الفعل ورجوعي للمنزل بائساً
مازلت أذكر وجعي ونظرة القهر والألم فى عيناي حين يفارقني أحد وبكائي كل ليلة .
مازلت أذكر يداي حينما إحترقتا وأخفيتهما عن الجميع حتي لا ينالني عقاب أبي .

كبر جسدي و أحلامي
أحياناً أشعر بأن الله يعاقبني علي كل أحلامي بأن يحرمني إياها ولا أنالها أبدا مهما كانت تافهة وكأن ذلك الطفل بداخلي لا حق له لا فى الحلم ولا فى الحياة
أحياناً أخبر نفسي بأن ( الفرحة جاية لابد ) وبأن هنالك لحظة ما سيتغير فيها كل شىء وسأكون قوياً وأتمكن من التخلي عن كل من أحببتهم وآلموني و فى لحظة ما سيعلمون بأنني أستحق
أحيانا أحادث الحائط وأخبره قبل كل ليلة بأنه إذا أراد أن يسقط علي رأسي فليكن حين ينتهي الحلم وحين أستيقظ وألا يحرمني من لحظات الحلم التي تعوضني عن كل شىء فقدته فى الحياة
أحياناً أغلق هواتفي وأجلس أفكر فى كل هؤلاء الذين سيحاولون الوصول إلي لكنهم سيسمعون العبارة الشهيرة ( الهاتف الذي طلبته ... ) وسيستمرون فى المحاولة إلي تلك اللحظة التي أفتح فيها هاتفي لأتأسف وأخبرهم بأني أعشقهم وبأني سأكون بخير لمجرد سماع صوتهم ولا شىء آخر يهم ولكن دائماً يخذلني الآخرين ويخيب ظني .
أحياناً أتمني لو كنت عصفوراً , ربما حينها فقط سأتمكن من الطيران وحتي لو أسروني فيكفيني بأنني طرت فى السماء ولو لدقيقة واحدة
أحياناً أحاول أن أصدق أكثر المقولات التي آدمنت بها فى حياتي بأن ( اللحظات الأكثر ظلمة هي التي تسبق الفجر ) لكني حينها فقط أتأكد بان البعض لم يُكتب لهم أن يروا فجر الحلم واقعاً وبأني حرمت منه لأنني كنت ( عيل شقي وواد صايع )

مازلت عاشق للموسيقي والسينما والكتابة والقراءة والفتيات النحيفات والشعر الطويل وكاره ل ( نبيل و أحمد و محمد و محمود ) .
مازلت أنا ذلك الطفل العبثي الصغير المجنون الشقي الحالم الذي تحطمت كل أحلامه ما بين مطرقة الواقع وسندان الخذلان ولا يجد طريقاً للحياة بدون أحلامه ولا يعرف لها معني أو طعماً لكنه موقن بأنه راجل طيب وسيلتزم بوعوده وكلماته التي أخبرهم بها : ( هعيش طول ما فيا نفس , متخافيش )
مازلت أكره الخوف والوجع والشكوي والألم والفقد والفراق والكره
مازالت أوجاعي بداخلي تحيا معي ...
 

شاب فقري


#كل حرف كتبته قد حدث بالفعل .
#كبرت أنا وهذا الطفل لم يكبر .
#ربنا يسامحكوا علي قد ما حبيتكم .
#عن الشاب الذي شنقته أحلامه 
#عن الوجع والفقد اللى مبيفارقنيش وكل الناس بتفارقني